حوار عبد الله العروي في جريدة المساء

بعد عقود من الكتابة في مواضيع حيوية تمت بصلة إلى الأيديولوجية العربية المعاصرة ومفارقاتها، ما القضايا التي مازالت تستأثر باهتمامك؟ وما المواضيع التي ترى أنها استنفدت طاقتها مع مر السنين؟
كما تنبئ آخر إصداراتي أميل اليوم إلى مطالعة كبار الفلاسفة ومنظري السياسة. ولهذا الاهتمام علاقة بالوضع الراهن، العربي والدولي، الذي يطرح علينا جميعا سؤالا محيرا، كان يبدو إلى عهد قريب متجاوزا. أعني مسألة الديمقراطية التيوقراطية، أو بالتعبير الإسلامي: الدولة الشرعية العادلة. هل يمكن تصورها في الواقع؟ عند الفحص نجدها كامنة عند جل المنظرين السياسيين. لم يلتفت إليها المحللون لأنهم كانوا يظنون أنها لم تتلاءم مع مكتسبات العلم الحديث. لكن تبين اليوم أن التساكن ممكن. إشكالية جديدة متولدة عن فشل التجربة الشيوعية وعن العولمة الرأسمالية.
– يرى كثير من الباحثين أن ما عرفه العالم العربي من وقائع وأحداث متلاحقة أكد سداد فرضياتك النظرية وصحة أطروحاتك الفكرية وراهنية تحليلاتك العلمية. هل كان من الممكن تجنب كثير من الكوارث لو تم الاستئناس بأفكارك، خاصة في مجالات التربية والتعليم والتصنيع؟
عندما بدأت مشواري الفكري كان هناك في الساحة شبه إجماع على ضرورة التحرر من التبعية للغرب، بتطبيق برنامج إصلاحي يشمل التعليم والمجتمع والاقتصاد. هذا الإجماع حول الأهداف جعل هوية الحاكم مسألة ثانوية. ولذلك حبَّذ الكثيرون حُكم العسكر.
في هذا الإطار وبهدف إنجاح المخطط شدَّدْتُ، فيما كتبت، على مساوئ الانتقال الثقافي، وعلى فوائد الانضباط لمنهجية مستنبطة من التجارب الإصلاحية السابقة في أوروبا، وفي غيرها من البلدان، كتركيا واليابان. وكان واضحا آنذاك أن البلد المُهَـيَّأ لخوض معركة الإصلاح الشَّـامِـل، واسْـتِـدْراك التَّخلُّـف، هو مصر الناصرية. تصورناها قدوة للبلاد العربية الأخرى، دون إسناد أي نوع من الوصاية لها.
تعثَّر المشروع لأن النزعة الانتقائية (نختار الأفضل من الغرب والشرق، ومن الحاضر والماضي) ظلت هي الغالبة في أذهان القادة والموالين لهم من المثقفين. لكن الإخفاق يعود، بالدرجة الأولى، إلى عوامل خارجية موضوعية أذكر أخطرها شأنا: مأساة فلسطين، معارضة الأنظمة النفطية، مهادنة الأزهر، مشكل الأقليات.
وبقدر ما يخفف هذا الأمر المسؤولية على الساسة يثقل كاهل المثقفين، الذين لم يدرسوا كل هذه المشكلات بالموضوعية الكافية، ولم ينبهوا المسؤولين إلى مخاطرها، بل تحولوا، في غالبيتهم، إلى شعراء مطربين.
– ألم تشعر بالإحباط (وهو ما يختلج سرائر شخصياتك الروائية) من مكر النخب الفكرية وعدم أداء دورها التنويري والتاريخي على الوجه المطلوب؟
لا يُـؤَاَخذ على المثقفين تصرفهم كمثقفين، إذ يوجد بينهم أدباء ونقاد وفنانون ناجحون. ما يؤاخذون عليه تطفُّلَـهم- بدعوى التزام زائف- على السياسة دون ضرورة واستعداد كاف للانخراط فيها. ارتكبوا أخطاء جمة لتجاهلهم دروس التاريخ والسوسيولوجيا. ما يغفر لهم أخطاءهم هو حصول الثورة الإعلامية، إذ نلاحظ اليوم السلبية ذاتها عند مثقفي الدول التي لها تجربة سياسية عريقة. يستأثر اليوم بالكلام من لا خبرة له سوى تشقيق الكلام.
– اضطلعت في الآونة الأخيرة بترجمة عينة من المصادر الهامة (النصوص الأصلية). ما الدافع إلى ترجمتها؟ ما قيمتها المضافة؟ ولِمَ عاودك الحنين إلى فلسفة الأنوار؟
أقدمت على تعريب «عقيدة روسو» لكي تكون مدخلا لإرساء قواعد فلسفة الدين عندنا، وحتى لا نظل حبيسي فتوى ابن رشد في الموضوع. كما عربت «تأملات مونتسكيو في تاريخ الرومان» لكي يتشجع أحدنا ويتأمل جديا في تاريخ العرب، بعيدا عن الأحكام المتداولة بيننا، وحتى لا نبقى نردد دون تمييز أقوال ابن خلدون.
– كيف يمكن فهم التشويه الحاصل اليوم في منطقتنا إن لم نرجع إلى الأصل والمنبع؟
تنشر كل يوم نصوص معربة، أحيانا بعناية فائقة عن عمالقة الفكر الغربي، وهذا جهد محمود. لكن من يتطوع لمناقشتها بجد؟ من يستنير بها لإعادة النظر في معتقداتنا العتيقة، التي زرعت فينا بذور اليأس والميل إلى التخريب؟ المغري في كتابات عصر الأنوار الصراحة والجرأة والصدق.
– غالبا ما تؤثر الصمت، ونادرا ما تشارك في النقاش العمومي ذي الصلة ببعض القضايا الأساسية، مثلما حدث مؤخرا في ما يخص «المعركة اللغوية». ما تقييمك للخرجات القليلة التي سعيت، من خلالها، إلى الإدلاء بموقفك في الفضاء العمومي؟ ألا ترى أن الإعلام المغربي موجه وغير قادر على إثارة «النقاش العمومي» بنزاهة وحياد ومهنية؟
أتحاشى الخوض في المسائل الخلافية، لأن الأمانة تدعوني – في الغالب – إلى مساندة أصحاب القرار، في حين أعلم أن المنتظر من أمثالي هو الرفض. تدخلت في مسألة اللغة لأنها تهمني منذ زمن طويل، ولقناعتي بأن المحرك لها لا يريد الخير للوطن وللثقافة الوطنية. في هذه النقطة بالذات – عكس نقط أخرى كثيرة – لم أساند أبدا أصحاب القرار، لأني لمست لديهم جهلا مطبقا بجذور المشكل، ولقناعتي بأنه لا يوجد موجب موضوعي لطرح المسألة بالشكل الذي طرحت به سوى مصالح فئوية ضيقة.
– أفرزت الديمقراطية من تلقاء ذاتها قوى مهددة لها: التطرف الديني، الشعبوية، البربرية (ما تقوم به أمريكا الآن من انحرافات بحجة محاربة الإرهاب). ما موقفك مما وسمه تزفتان تودوروف بـ»أعداء الديمقراطية الحميمين»؟ وما السبل لتعزيز الديمقراطية كآلية لتوافق السياسيين وتشاركهم؟
ربطا بجوابي على السؤال الأول، أرى أن مفهوم الديمقراطية عاد اليوم إشكاليا. للديمقراطية (حكم الشعب بالشعب وللشعب) شروط قد توجد وقد لا توجد، بل قد توجد ثم تختفي، فتتحول الديمقراطية إلى غوغائية هدامة، كما نبه إلى ذلك كبار المنظرين. من يقول إن السيادة للشعب وله وحده في كل وقت وحين، كيف له أن يتعجب من أن تتولد في صلبها الشعبوية، إذا كانت الأغلبية متصفة بالتوكل ومتعودة على الاستجداء؟
هذا واقع ملازم لنا، فعلينا أن نتعامل معه، ونتصور آلية تعديل ذاتية تمنعه من الزيغ والتيه دون الإنصات إلى ما يلوح به لنا الغير.
– هناك من يرى أن الحداثة أضحت مفهوما مبتذلا من كثرة استعمالاتها في سياقات مختلفة ومتضاربة. ألا ترى أن الحداثيين لم يعملوا إلا على تأزيم المفهوم، عوض توطينه لمقاومة كل ما يكرس المحافظة والامتثال والتقليد؟
ليس الابتذال المشار إليه في الواقع ذاته، إن العولمة تابعة للحداثة، بقدر ما هو في ذهن من يكتب عن الحداثة دون إلمام بمعانيها المتشعبة. أين الترجمة الكاملة والدقيقة لكبار منظري الحداثة، كماكس فيبر، وجون هنري لمبرت وكارل مانهايم؟ أين الدراسات الوافية لأعمالهم؟ ما يروج في السوق هو ما كتب عن هؤلاء بعد ردة أواسط القرن الماضي. من يفهم النظرية السوية لا يمكنه أن يفهم النقد الموجه إليها، وما يستتبعه من إحياء للفكر الوسطوي.
الحداثة واقع تاريخي ذو مسارات مختلفة وأوجه عدة. المفكر الحداثي ليس من يعرض النظريات ويفند الاعتراضات، بقدر ما هو من يتسلح بالمنهج النقدي، وينظر مجددا للتاريخ العربي وللعقيدة، ولمفهوم الديمقراطية والبحث العلمي. من لا يغادر سماء الأيديولوجية يهزم بالأيديولوجية، أصلية كانت أم مولدة.
– ألا ترى بأن الحضارة- في ظل العولمة- أصبحت تتنكر للإنسانية، وتعمق الجراح الرمزية والجسدية المتوارثة عن المرحلة الاستعمارية؟
يقول الغرب إنه يخوض حربا مقدسة ضد الهمجية البربرية، والواقع أنه يقاوم التحول الهائل الذي غير ميزان القوى الدولية.
ظن الغرب أنه سيحتفظ إلى الأبد بالتفوق الذي حازه منذ ثلاثة قرون، فراح ينادي بضرورة تحرير التجارة العالمية، بل فرضها على الجميع. ولم تمر سوى بضعة عقود حتى غزت الأسواق الغربية البضائع الآسيوية والأموال العربية، واليد العاملة الأفريقية. كان يرى طبيعيا، بل حتميا، أن يذهب هو عند الغير، أما أن يقصده الغير ويستقر في ربوعه، فهذا ما لم يتحمله طويلا، فبات ينظر إلى نفسه – على نحو الإمبراطورية الرومانية – قلعة متمدنة محاصرة من لدن أقوام لا تعرف ما القانون وما النظام. هذا هو شعور العامة في الغرب، قد يعارضه بعض المثقفين، لكني أستبعد أن يصمد له الساسة.
– شخصت في «سلسلة المفاهيم» كثيرا من المفارقات التي تجسدت بالملموس فيما اصطلح عليه بـ «الربيع العربي»، وهي تتمثل – من بين عوامل أخرى – في اتساع الهوة بين ما يقال وما يمارس، وانتفاء المشروعية السياسية، وعدم حصول ترابط وطيد بين الدولة والحرية والعقلانية. أهي أهواء ومواقف متوارثة في طوية الإنسان العربي، أم أنها عوائق التحديث التي تحول دون تحقيق الطفرة المرجوة؟
ما ظهر بوضوح أثناء الأحداث الأخيرة هو أن الجانبين أساءا تقييم الواقع. الحكام تجاهلوا الوضع الداخلي، ظنا منهم أن سياسة مداهنة الأجنبي وإرضاء فئة قليلة من السكان تضمن الاستقرار، والمعارضة تعامت عن أهداف الدول الغربية. هدف الغرب دون تمييز بين دوله هو إبدال نخبة بأخرى، حتى تستمر العلاقات على حالها، والطريقة الديمقراطية المقترحة ما هي سوى وسيلة لتمرير هذا المخطط. الواقع هو أن الغرب يطبق المخطط ذاته في سياسته الداخلية: التداول على السلطة عنده شرط استمرار اللعبة السياسية. فإذا قلنا هذا كل ما في السوق، عندهم وعندنا، أما كان بالإمكان تجنب العنف والتخريب؟
– عملية التخريب جارية، اليوم، على قدم وساق في كل مواطن، بدءا بالأطراف، ووصولا إلى القلب. من المسؤول؟ من نادى بالفوضى الخلاقة أيا كان، ومن نفذها بإصرار؟
صور فرنسيسكو دي غويا في لوحته «درب الجحيم» أناسا مدفوعين نحو اللهب، وشخصت في رواية «الفريق» أناسا محاطين بالنار واللهب (ما يصدر عن البراكين والمظاهرات). ألا ترى أن العالم، عوض أن يجسد «الحنين الملحمي»، بلغة جورج لوكاش، سعيا إلى تحقيق التلاؤم بين أفعال الروح ومطالبها، أغرق الإنسان في نزعة تشاؤمية عميقة؟
الباعث على التشاؤم فشل الشيوعية الروسية. إذ ظن الغرب الرأسمالي أنه كسب المعركة النهائية، وأنه يستطيع التحكم بالعولمة في مصائر شعوب الأرض إلى ما لا نهاية؛ ثم خاب هذا الأمل بدوره. انقلبت النشوة إلى حيرة، وتحولت نهاية التاريخ إلى صراع الحضارات. هذا هو الفضاء الذي تجرى فيه رواية «الآفة»، التشاؤم معد، لا يتحضر في جماعة دون غيرها. من لا ينتمي إلى الغرب لا يستطيع تغيير الواقع، لكن ليس عليه أن يزكيه، عليه أن يقتصد في أمره، ويصلح من شؤونه حسب «المعقول».
– لم إصرارك على التجريب الروائي؟ وما العقدة المغربية التي تسعى إلى تمثيلها في رواياتك؟ أمازالت الرواية العربية منشغلة بـ»ضياع الموضوع» ومهتمة بالموصوف أكثر من الموضوع عينه؟
ختمت برواية «الآفة» سلسلة الأعمال الأدبية، كما أنهيت بكتاب «السنة والإصلاح» سلسلة الأعمال الفكرية. يستطيع القارئ أن يعود إلى أول عمل نشر لي «رجل الذكرى»، الذي سيعاد نشره قريبا (نُشِـرَ عن المركز الثقافي العربي)، ليقف على ما يجمع العملين. وربما يكتشف- حينئذ- ما أقصد بالموضوع الذي يعمل الموصوف على تجليته.
عقدتنا هي أننا نحفظ أكثر مما نعقل، أي نفضل التعامل مع الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. للمتفائل أن يدعي بأن ما يهدم اليوم بهذا العنف الرهيب، يحررنا في كل الأحوال من أغلال الماضي البئيس.

المصدر: المساء، الدار البيضاء، عدد 11 فبراير 2015

أجرى الحوار: محمد الداهي

13 فبراير,2015

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *